الميدان الرياضي : اسمه خفيف كالوتر
التاريخ : 2014-11-13

اسمه خفيف كالوتر

افتراضي   نادر الرنتيسي  

 

 

كثيراً ما أُسأُل عن تفسير لحالة الانتماء الحار للوحدات كناد. عن توضيح منطقي لهذا الارتباط الانفعالي بفريق كرة. 
ودائماً أقول: إن الوحدات أكبر من فريق رياضي. في الوحدات اختصار لقصة مخيم. وقضية مأساة إنسانية. وحلم غلابى بالنجاح والفرح والحياة.
نادر الرنتيسي كتب هذا المقال منذ فترة..وأحببت أن أدرجه هنا لأنه يختصر مشاعر الكثير منا تجاه أسطورة النادي:




كنتُ فتى غريباً، وكان لي شؤوني الغريبة. في شأن ما كنتُ مهووساً بالبحث عنِّي في مَنْ أرى أنَّني واحدٌ من أربعينهم، أو من هو النسخة الضالة منِّي. أحبَبْتُ مُغنياً عابساً، وممثلاً تراجيدياً، وشاعراً أقلَّ من وطن، وواصلتُ الحلمَ الصغيرَ بأن أصيرَ "رأس الحربة" في "نادي الوحدات"، كانت الأحلامُ يسيرة، أذكرُ أنّي قرأتُ واحداً منها، عن هدف خياليٍّ قبل عشرين عاماً، سجَّله مراهقٌ أسمر اسمه خفيفٌ كالوتر: "رأفت علي". 
كان الوقتُ منتصف التسعينيات، و"الوحدات" فريقٌ فائزٌ على الدوام، والخسارة إنْ حدثتْ تكونُ مُرَّةً. بل أشدَّ مرارةً حقل حنظل زاحفٍ. تخلَّيْتُ عن "الحلم الصغير" طالما أنَّ "الفريق الأخضر" لا يحتاجُ لمجهود مراهق مثلي مشغول بالفصل بين "السيَّاب" و"الملائكة" بأسبقية ردم الفجوات بين البحور الشعرية، ولأنَّ مراهقاً آخرَ أسمرَ كالتعب، والحزن، والعشق، يؤدِّي المهمة كاملة، ويستطيعُ لو أرادَ "غربلة" فريقٍ بدكة الاحتياط، والبقاء وحيداً في "الغِرْبال"! 
سنقتربُ من نهاية القرن: سأتخفَّفُ إلا من حلمٍ كبيرٍ بأن أكونَ كاتباً بحجم شارعٍ في الوطن، أما أنْ أصبح "رأس حربة"، فسأكتفي بمتابعة خطوات "رأفت علي" الموسيقية في الملعب، وألتقط تفاصيلَ الشبه بين نسخَتْينا: ضمور في الشفة العليا، خفَّة في الاسم، الاشتراك باسم الأب، و"دم حار" في الانتماء. سأذهبُ إلى الجامعة، عندما يخلُّ "الوحدات" بوعد "الدوري للألفين"، ويصبحُ الفريقُ خاسراً على الدوام، والفوز إنْ حدث يكونُ حلواً كـ "سهل أخضر".
يُكلِّفني المُحاضِر بإجراء أول حوار صحفيّ. لن أجتهدَ باختيار الشخص الذي سأحاوره، عندما أصنِّفُ الأمر بأن أبدأ بمنْ أحلم أولاً بلقائه، فأذهب بأول خطوات إلى "مخيَّم الوحدات"، أصعد إلى الصالة المغطاة لمتابعة تمرين مغلق، أنتظر "رأفت علي" حتى يسجِّلَ هدفاً فنياً بمرمى "محمد أبو داوود"، أقفُ بجانبه، فأكتشف شبهاً جديداً يجمعنا: "الطول المربَّع". لا أخبره أنيِّ أحبه، وأني وكَّلته حلمي الصغير، فمتذرعاً بالوقت القصير، سيعطيني موعداً يخلفه أيضاً، ولما يلتزم، وأجري معه حواراً "ع الواقف" في كافتيريا النادي، سيضطر للحاق بصديقه (الذي سمعتُ أنه أقرب إليه من دقيقة تفصل توأماً) ولما أساله عن الحوار، يردُّ بنصف استدارة:"كمَّلها من عندك"!
إذن سأكمل الحكاية: هو "رأفت بن الحجِّ علي" الذي ولد في منتصف السبعينيات تماماً في حيِّ النصر الفقير، التحقَ بنادي الوحدات مبكِّراً قبل أنْ يبتعد ثمَّ يعودُ متأخراً عن أبناء جيله بعامين، مستهلاً حياته الرياضية باضطرابٍ يليقُ بكائن زئبقيٍّ ينتسِبُ لبرج الجوزاء. منذ منتصف التسعينيات سيضجر الجمهور من "أنانيَّته"، واحتفاظه الزائد بالكرة ليثبتَ أنَّه أمكر من ثعلب في "المراوغة"، ثمَّ يصفحُون عنه لما يُعرفُ بأنه يلعب بـ "فن" ولهذا ستصبحُ ألقابه "المْعلِّم" "الفنان" "بيكاسو"؛ ولو أتيَح لي إضافة لقب جديد، فهو أيضاً "مخرج سينمائي"! 
و"صانع المطر" هو و"المُخَلِّص" و"المنقذ" و"معبود الجماهير"؛ فمنذ منتصف العقد الأول من الألفية الجديدة سيرحَلُ رفقاء التسعينيات، رفيقاً، فصديقاً، وستثقل زنده الصلبة بـ "شارة الكابتن"، وسيحتكر التوقيعَ على أمجاد الوحدات الجديدة، حتى يذهبَ في رحلة خاسرةٍ إلى الكويت، ثمَّ يعودُ كالطفل الحَرِد وهو على أعتاب الأربعين، يحمل الكأس الأخير، بعد أن يحقق سابقة لم تحدث كثيرا: أنْ يلعبَ بجوار لاعبٍ مولودٍ في العام 1996؛ أي عندما كان لـ "رأفت علي" مُلصَقاً في غرف المراهقين!
وفي منتصف الثلاثين أنا الآن، وما يزال لي شؤوني الغريبة: أحبُّ مُغنياً عابساً كالعراق، وممثلاً تراجيدياً رحل بالحزن والسرطان، وشاعراً مات ثمَّ صار أكبر من وطن، أفتِّشُ عنِّي في النسخة الضائعة منِّي، ولن أفعل كما فعلتُ قبل مراهقة: أجلس على مقعدٍ بلاستيكيٍّ صلبٍ في ستاد عمَّان، مراقباً فتى نحيلاً كشاعرٍ، أسمرَ كعاشقٍ، عابساً كفنان، أسطورةً كـ "رأفت علي".

عدد المشاهدات : [ 3841 ]
   
الإسم
البريد الإلكتروني
نص التعليق
تتم مراجعة كافة التعليقات ،وتنشر في حال الموافقة عليها فقط ،
ويحتفظ موقع ' الميدان الرياضي ' بحق حذف أي تعليق في أي وقت ،ولأي سبب كان،ولن ينشر أي تعليق يتضمن اساءة أو خروجا عن الموضوع المطروح ، علما ان التعليقات تعبر عن أصحابها فقط .