التاريخ : 2017-10-30
لا تهل التراب على قبري يا أوس
د.زياد الرميلي
وحده أوس الصّغير من كان يجتهد أن يهيل التّراب بيديه الصّغيرتين النّاعمتين على قبر والده الرّاحل المغدور الكابتن "عامر عدس"؛ في حين كان المشيعون جميعاً يتثاقلون أرضاً وهم يهيلون التّراب عليه، وهو يغور في العدم والرّحيل في قبره الصّغير المضني في مقبرة سحاب؛ لعلّهم كانوا يتمنون أن يكون ما هم فيه محض كابوس، فيستفيقوا منه على ضحكات الكابتن "عامر عدس" التي تتعالى مجلجلة في الملاعب وفي أنفس اللاعبين لتسرق جمهور الحضور كما اعتاد دائماً أن يستحوذ على الحضور والاهتمام والتميّز بإبداعه وريادته،فيقول للجميع:"كنتُ أمازحكم،فأنا لم أمت". لكن ابنه أوس الصّغير ذا السّنين القليلة كان يدرك تماماً بفطرته الطّفوليّة الطّاهرة التي تجابه الفقد والحرمان والظّلم واليتم لأوّل مرّة أنّ والده ذا الصّيت والحضور الرّياضيّ والإنسانيّ الغامر الشّائك قد رحل إلى الأبد عن أرض الحزن والظّلم والقهر والإهمال،وتركه وحيداً وأخته وأمّه يتامى معوزين لا حول ولا قوّة أو معين أو حامٍ لهم. لذلك كان "أوس" يجتهد على الرّغم من ضعفه وقلّة حيلته كي يهيل التّراب على قبر والده كي يسلمه سريعاً لأرض الموت؛ لعلّه يركن إلى النّسيان والرّاحة بعد طول معاناة وقهر وظلم، فيرتاح من ألمه، ويسكن جرحه النّازف الحارق.
كان "أوس" يجتهد أكثر فأكثر ليهيل التّراب أسرع فأسرع، وكنتُ أراقبه من قرب متخفيّاً خلف غيوم الدّموع التي تتحدّى تتماسكي المزوّر كي لا يرى الجميع بكائي على الرّاحل الصّديق الصّدوق " عامر عدس"، وكنتُ أسمع ذلك الصّوت الأجشّ الآمر الذي اعتدناه من الكابتن "عامر عدس"،وقد اكتسى بانكسار الموت وخذلان الرّحيل، وهو يصرخ من قبره بابنه "أوس" قائلاً:" لا تهل التّراب على قبري يا أوس"؛ فالرّحيل لم يأنِ بعد، ولكن ما كان يصيخ لكلامه سامع أو هائل تراب؛ الجميع يهيل التّراب والدّموع والحسرات عليه، ووحدي أسمعه يجأر ملء القبور " لا تهل التّراب عليّ يا "أوس"، وينتهي التّشييع، ويرحل المشيعون، وتحمل الأكتاف الصّغير اليتيم " أوس"،ويبتعد الجميع، ويلتف الموت حول جسد"عامر" ليبتلعه إلى الأبد في ضجعته القسريّة، وتظلّ المقبرة تجأر بصوت كسير يصيح دون مجيب " لا تهل التّراب علي يا "أوس". يا "أوس" أبوك يصيح بك وبنا :" لا تهل التّراب عليّ"؛ فالموت لم يكتمل بعد، والرّحيل بسلام لم يتمّ؛ فهو لا زال معلّقاً في برزخ ينتظر أن تُقضى ديونه التي ظلّت إرثاً أسود ملعوناً على عاتق زوجة معدمة وحيدة لا دخل أو معين لها، وباتت قيداً في رقبتي يتيم ويتيمة سرقت الملاعب والظّلم والأخطاء الطّبيّة عمر والدهم، بعد أن قصفت روحه وهي في أوج عطائها، وقادتها حزينة مكلومة إلى دنيا الموت. لا " تهل التّراب على قبر أبيك يا أوس" ؛ لأنّ أبيك مات مديوناً للحياة والمرض والقهر، ويحتاج منْ يسدّ ديونه؛ فقد ترك أقساطاً لا تنقضي للبيت والمدارس،و"فاتورة حساب" ببضعة ألوف من الدّنانير للمستشفى الخاصّ الذي قضى نحبه على سرير من أسرّته دون أن يجد من يدفع هذه الفاتورة بعد أن دفع نادي الجزيرة حصة عملاقة منها من خلال رئيسه السابق سمير منصور ورئيسه الحالي محمد المحارمه، وترك الباقي معلّقاً بجثة الرّاحل، وبتوقيع زوجته على كفالات ماليّة خطيرة لا تملك منها قرشاً واحداً، وقد تدخلها السّجن لقاء ذلك إن لم تدفع هذا المال، وقد وافقتْ على ذلك مكرهة معدمة عندما أُغلقت الأبواب في وجهها ،وظلّ الدّين خصمها اللئيم الشّرس الذي ينهشها بأنيابه الزّرقاء المسمومة. "لا تهل التّراب على قبر أبيك يا أوس" قبل أن تأخذ ثأره؛ فأبوك لم يمت بذبحة قلبيّة كما روا لك، بل مات قتيل الظّلم والقهر الذي شربه كأساً وافراً كما شربه نادي الجزيرة ظلماً، فتوقّف قلبه عن الحياة احتجاجاً على الغبن عندما لم يستطع أن يرفع الظّلم عنه وعن النّادي الذي ينتمي له بقلبه قبل جسده ووظيفته.الظّلم قتل أباك، القهر قتل أباك، الفقر قتل أباك، الإقصاء قتل أباك، الإهمال الطّبيّ قتل أباك، يا ولدي الصّغير المسكين، أحمّلك ثأراً كبيراً يا صغيري المنكود، لقد ضيّعوك صغيراً، وحمّلوك عظيماً، وروح أبيك تستصرخ فيك "لا تهل التّراب يا أوس"؛ فالرّوح ليست في سلام،وطائر الهامة يقفز من جبيني صارخاً فيك بثأر الجدود: اسقوني، اسقوني؛ فأنا في عطش،فلا تهل التّراب عليّ يا أوس". أكادُ أرى "أوس" يسدر في صمت عجيب لا يأنسه طفل خلعوه للتو من حضن أبيه الذي أطعموه للتّراب والنّسيان، ولعلّه بدأ يسمع صريخ والده فيه يزجره عن النّسيان، وهو يحملّه عهد الأب الذي لا يجوز أن ينفض، وأكاد ألمح شفتي الصّغير"أوس" تزمّان على وقع جملة جريحة تقول" لا تهيلوا التّراب على أبي"؛ فأبي قتيل، ومن يأخذ الثّأر لأبي؟ من يحاسب مستشفى كاملّة لأنّها عجزت بكلّ طواقمها وأمكاناتها العملاقة عن أنّ تجد سريراً لأبي، وهو من بذل حياته لأجل الوطن، ورفع اسمه في سماء الشّبيبة والفتوة والرّياضة ومقارعة المتحدّين، وبزّ المتميزين،وغرس راية الوطن في قمة أولمب الرّياضة والشّباب والصّحوة؟من يحاسب مستشفى خاصّاً تخبّط في تشخيص حالة والدي مرّة تلو أخرى حتى ضيّع عليه فرص العلاج والتّشافيّ،ودفعه دفعاً إلى الموت؟ من يحاسب ظلماً وقع – مع سبق الإصرار والتكرار- على نادي الجزيرة إلى أن وطأ الحزن قلب أبي، وهجم عليه، وعضّه بنابه المميت؟ من يحاسب الفقر الذي لم ينحنِ خجلاً من والدي الكابتن الشّهير النّاجح المتميزّ فتركه فقيراً معدماً مديوناً؟ من يدفع باقي "فاتورة" علاج والدي التي قُيّدت ديناً على أمي يطاردها ليل نهار، ويقض مضجعها المحترق،وينغّص وحدتها وعجزها؟ من يبالي بمستقبلي ورغيفي وتعليمي أنا وأختي فيصرف لنا راتباً شهريّاً يمنعنا من أن نريق ماء وجهنا على أبواب السّؤال بعد أن أُريق دم والدنا المغتال على أبواب الرّياضة والظّلم والإهمال والفقر؟ من يسمع صوت أبي يجلجل وجداني وهو يزجرني بأسىً قائلاً:" لا تهل التّراب على قبري يا أوس"؟. وأنا أقول من يسمع صوتك الضّعيف المهزول وأنت تصرخ بنا بما قاله لكَ أبوك يا "أوس"؟ تكاد الآذان لا تدرك صوتكَ اليتيم الصّغير،ولكنّني أنا سأصرخ معكَ لأرفع صوتك بصوتي" لا تهل التّراب على قبر والدك يا "أوس"، وسنصرخ جميعاً -شرفاء ومحبين ونبلاء -بصوتك وبصوت والدكَ المغتال" لا تهل التّراب على قبر الكابتن " عامر عدس يا أوس"، حتى يسمع الجميع صراخك واستصراخ والدكَ،وحتى يصل الصّوت لسامعين الصّوت، وحتى يرن هاتف والدتكَ ليخبرها نبيل أو نبيلة بأن ديون والدكَ وفاتورة علاجه وراتباً شهريّاً لعائلته وتحقيقاً رسميّاً قد أمر بأن تكون جميعاً بأمر من ... أو من ... أو من... انتصاراً لحقك وصراخك ووفاء لروح الكابتن" عامر عدس" التي لا تعرف السّلام وهي مرهونة لعالم الأحياء بالدّيون والألم والظّلم والدّماء التي لا تنشف حتى يعاقب من قتله من ظلم وفقر وخطأ طبّي. جميعاً سنصرخ بصوت واحد " يا أوس لا تهل التّراب على قبر أبيك"؛ فلا زالت هناك حقوق لم تقضَ،ومكارم لم يُأمر بها بعد أهل الكرم والنّجدة وسمو الامير علي بن الحسين رئيس الاتحاد الاردني لكرة القدم اهل لها، وجميعنا ننتظر كرم الهاشميين الذي لا ينضب ،و"أوس" لا يزال يمسك في قبضتيه تراباً نديّاً،ويصرخ: لبّيك أبي... لا تراب يُهال على قبرك قبل أن تستوفي حقوقكَ"." يا أوس لا تهل التّراب على قبري"* خبير كرة قدم - أستاذ محاضر في كلية التريبة الرياضية بالجامعة الأردنية عدد المشاهدات : [ 13195 ]